بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
إذا كانت الكلمة ضخمة المعنى، فخمة المبنى، رنانة النغمة، زاهرة اللون رائجة في أسواق الأوساط، ترى الناس على اختلاف طبقاتهم يتسابقون إليهاو يتجاذبونها إليهم، كالوطنية و القومية و الإنسانية و الحرية و العدالة و المساواة كما يتسابقون إلى الغادة الهيفاء لسماع نغماتها الشجية و ألفاظها الساحرة المعسولة و هم في الواقع بعيدو الوصول إليها.
وكل يدعى وصلا بليلى و ليلى لا تقر لهم بذاك
و كما يتزلف ضعفاء العقول إلى الوجهاء و الأغنياء رجاء أن ينالوا بهم حظا أمام أقرانهم وهم ليسوا منهم في شيء.لشدة رواج الوطنية بين الأمم و الشعوب على اختلاف الأجناس و الأديان و المذاهب ترى الناس يتجاذبونها و يصطبغون بلونها، و إن كانوا يعملون على نقيضها، يتغنون بنشيدها و يتمجدون بذكرها و إن كانوا منها خلوا.يموتون كمدا إذا هم جردوا منها و إن كانوا منها متجردين، يشيدون المراقص، فيقولون لعمارة الوطن، يفتحون المقامر فيزعمون أنه لإعلاء شأن الوطن، يعلنون على الخمور فينادون أن شجعوا بضائع الوطن، يستجلبون أنواع الملاهي و المقاصف فيموهون أن ذلك لتمدين الوطن، ينظمون حفلات الرقص و الغناء فيختلط فيها الحابل بالنابل فيعلنون عنها بلا خجل أن ما يتجمع منها لفائدة المشروع الخيري الوطني ( وليتها لم تزن و لم تتصدق ).كأنما الوطن فندق متداعي الجدران، و الوطنية، فؤوس و معاول، تقتنى لهدمه و اكتساحه، ليست هذه يا قوم من الوطنية في شيء، فإذا فتحنا لأنفسنا باب الدعاوى و لم نتقيد بعرف اللغة و حدود الشرع و آداب الاجتماع، ساغ لنا أن ندعي كل شيء و لا نقف عند حد، و إذا ذاك نعيش و نحن هائمون في أودية من الحيرة و الفوضى، لا ضابط و لا نظام و لا قانون.ليست الوطنية الجهل بتاريخ البلاد، ومجد البلاد، و عظماء البلاد، ولسان البلاد، و دين البلاد، و آداب البلاد، ومشخصات البلاد.ليست الوطنية التفاخر بتاريخ الغير و مجده، و عظمائه و لسانه، ودينه و آدابه، ليست الوطنية في تعديل القوام وتحسين الهندام و الجري وراء القصف و المجون، إنما الوطنية شرارة نارية يقذفها الله في النفس فيلتهب بها الدماغ و ترسل أشعة نورها إلى القلب فتحرك حرارتها الأعضاء، وتنير تلك الأشعة الساطعة أمامها سبيل العمل.إنما الوطنية الحقة أن يسعى الإنسان قدر جهده لجلب الخير العميم لوطنه و دفع الضر عنه بمقتضى العقل و الحكمة و الشرع و القانون.إن الوطنية الحقة أن تفنى في مصلحة العموم مصلحة الذات و يضحي هذه لأجل تلك.إن الوطنية الحقة أن يشقى الإنسان ليسعد وطنه، ويذل ليعز، و يفقر ليستغنى، و يموت ليحيى، كما فعل مصطفى كامل، و فريد، و زغلول ، و الباروني، و الثعالبي، و شكيب و أضرابهم.
تلك هي الوطنية الحقة التي على أساسها تشيد دعائم العمران إذا نفخ روحها في الشعب و غذى بها جسم الأمة و ما عداها فدعاوى فارغة، لاحظ لها من الوطنية إلا ما للزبد من المنفعة.ليس الوطني الحقيقي من يظهر رأسه عند الرخاء، وإذا جد الجد اختفى و توارى عن الأعين فإن هذا النوع من الوطنية تشاركه حتى الأرانب، و لكن الوطني الحقيقي كالأخ الصديق إنما تظهر صداقته ومودته عند البلاء و المحن و المضائق هذا نحو أخيه العزيز وذلك نحو وطنه المحبوب.لا يبالي إذا خدم وطنه إن أصيب في ماله أو نفسه أو عرضه لأجله، بل لا يزيده ذلك إلا تنشيطا و تشجيعا و إقداما و ثباتا و تجلدا لما يعلم من أنه ما أصيب بما أصيب به إلا لإصابته شاكلة الرأي وكبد الحقيقة، فما دام لم يمس بشيء لأجله فما زال لم يعترف بوجوده و لا بشيء من الأثر في عمله و أي شيء ألذ من نجاحه في عمله، هذه نفسية الوطني الحقيقي، و أنى لنا نحن من مثل هذا الصدق و الوفاء !.يبرز أحدنا في الميدان بداعي الوطنية فإذا مس بمساك في نفسه أو عرضه أو ماله تخيل أن القيامة قد قامت، فتوارى عن الأعين و انزوى في كسر بيته كأنه يحسب الوطنية تمرا يأكله أو رغيفا يقتات به، و إذا برز إلى الميدان و لم يعتقد و أنه لا بد في مبارزته من مصائب ومحن فلماذا برز؟ و قد كان الأحرى به أن يقاسم أهله أشغال البيت من الكنس و الطبخ و تربية أولاده إلخ. وهذا أولى من أن يكون فارا من الميدان ذا وطنية فرارة فيفشل و يفشل به غيره فيكون السبب فيما يحل بالشعب من الفشل و الانهزام، إن لنا قرآنا و سنة و آثارا و تاريخا و عبرا ترينا كيف يجب الثبات و الصبر على المكاره و الذود عن الحوض و الحمى بكل صدق و إخلاص و بهذا نحرز على لقب الوطنية الحقة.