المتحدة الأمريكية نتيجة سوء التوزيع فقد ارتفع عدد الفقراء سنة 2001 من 32.9 مليون فقير إلى 34.6 أي بزيادة 1.7 مليون فقير في سنة واحدة.
وقد بينت التجارب أن تحقيق النموّ لا ينجر عنه ضرورة تحقيق التنمية البشرية إذا لم يصحبه توزيع عادل نسبيا. فالبشرية قد حققت في الثمانينات نسبة نموّ عام محترم لكن ذلك لم يمنع زيادة عدد الفقراء المدقعين في نفس الفترة زيادة قدرت بمئة مليون فقير جديد.
ولنا في الهند عبرة في الأشهر الأخيرة، فقد خسرت الانتخابات الحكومةُ التي حققت نسبة نموّ مرتفعة لأنها لم تعمل بما فيه الكفاية على ترجمة ذلك النمو إلى تنمية تشمل فئات شعبية أوسع.
يمكن القول إجمالا إن العولمة قد حققت لبعض البلدان نموّا اقتصاديا وزيادة ثروة، لكنها زادت في فقر بلدان أخرى، كما زادت – حتى في بعض البلدان المستفيدة – من فقر شرائح من المجتمع لم تشملها ثمار النمو ولم تتحول إلى تنمية بشرية.
ولعل هذا ما يبرّر ظهور حركات تناهض العولمة الوحشية وتعمل من أجل عولمة بديلة أو عولمة ذات وجه إنساني كما وصفتها ماري روبنسن المفوضة السامية لحقوق الإنسان سابقا لأن العولمة مسار طبيعي وليست خيارا، فجوهر القضية ليس أن نكون معها أو ضدها وإنما أن نوظفها لصالح الجميع، وهو أمر غير مستحيل وإنما يدعونا إلى التفكير في الحلول الناجعة لمقاومة الفقر.
ثالثا: مقاومة الفقر وتجريمه
رأينا أن معالجة الفقر كانت منذ القديم تعتمد حلولا إنسانية مثل الصدقة من منطلق العطف أو التضامن أو الإعانات الإنسانية التي اتخذت بعدا دوليا في حالات الحروب والكوارث.
إلاّ أن الجديد نسبيا هو ربط الفقر بحقوق الإنسان في المستوى النظري وذلك بتجاوز المفاهيم المرتبطة بالطبيعة والقدر إلى اعتبار الفقر انتهاكا لحقوق الإنسان، أي بتجاوز الحتمية، سواء أنظر إليها من الزاوية الدينية القدرية أم من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية كإفراز طبيعي للنمو.
وهكذا أصبح الفقر يُعتبر اليوم التحدّي الأخلاقي الأكبر في عالم اليوم. وهو تحدّ يستحث همم الحكام والمثقفين وعالم الأعمال وأعضاء المنظمات غير الحكومية من نقابات ومنظمات حقوق إنسان فضلا عن سائر المواطنين المهتمين بقضايا المجتمع. ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة دون قضاء على الفقر. وإن خاصية الفقر هي أنه لا يمثل انتهاكا لواحد من حقوق الإنسان وإنما يمثل انتهاكا لجميع حقوقه، لذلك بدأ الحديث في العقد الأخير خاصة عن الفقر باعتباره انتهاكا شاملا لحقوق الإنسان. وقد ذهب نلسون منديلا أبعد من ذلك في قمة كوبنهاكن حين وصف الفقر وصفا بليغا باعتباره "الوجه الحديث للعبودية". وكما ألغت البشرية العبودية خلال القرن التاسع عشر وجرّمته، فهي مطالبة اليوم بإلغاء الفقر وتجريمه لأنه يتسبب في أشكال جديدة من العبودية.
1 - ربط الفقر بحقوق الإنسان
يتضح لنا مما سبق أن ربط الفقر بحقوق الإنسان، يمثل مرحلة أساسية ضرورية للوصول إلى تجريمه كما جرّمت العبودية. وقد بدأ هذا الربط تدريجيا منذ الثمانينات بصدور إعلان الحق في التنمية سنة 1986 الذي يستمد جذوره من المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) التي تنص على أن "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشتة في حالات البطالة والمرض والعجز والترمّل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته".
وقد فصل العهدان الدوليان ذلك (1966) ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي حقوق لئن عولجت أساسا من حيث هي حقوق فردية، فإن في العهدين ما يتعلق بالحقوق الجماعية للشعوب، وما يهيء لصدور إعلان الحق في التنمية بعد عقدين من ذلك، وهو إعلان يندرج بمواده العشر بوضوح ضمن حقوق الشعوب، باعتبار تنمية الشعوب شاملة بطبيعة الحال للأفراد.
وقد تعاقبت النصوص والقرارات بعد ذلك بنسق متسارع يدل على أنّ قضية الفقر في العالم أصبحت هاجسا من هواجس البشرية، لذلك وقع إدراجها ضمن برنامج عمل مؤتمر فيينا (1993) والقمة العالمية للتنمية الاجتماعية (1995) وإعلان الألفية، والعشرية الأممية للقضاء على الفقر (1997 – 2006) واعتبار ذلك واجبا أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
وقد تمّ الربط بوضوح بين الفقر وحقوق الإنسان والحق في التنمية والحكم الصالح الديمقراطي في الوثيقة العملية الصادرة في أواسط 2003 عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية. وفي هذا الربط دليل على تزايد الاقتناع بترابط هذه العناصر وبأن الفقر ليس ظاهرة شاذة أو معزولة وإنما هو مسؤولية جماعية. لأجل ذلك تبنت القضية لجان حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وردّدت صداها جميع تقارير المقررين الأمميين في السنين الأخيرة ولا سيما منهم الخاصين بما يسمى "الحقوق الجديدة" مثل التغذية والسكان الأصليين والسكن" فضلا عن تقارير منظمة العمل الدولية.
وخلال السنة الجارية (2004) كانت قضية الفقر في صدارة اهتمام المنتدى العالمي في دافوس والمنتدى الاجتماعي في هومباي من بين عديد المناسبات الأخرى.
2 - من الربط إلى الإلزام
يمكن القول إننا اليوم في مرحلة إدراج الفقر ضمن منظومة حقوق اإنسان بصفة نظرية ومبدئية. أما إدراجه ضمن المنظومة المعياريةّ، فهو غير مباشر لأنه يمر عبر الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية، فهل من الواقعية أن تصبح مقاومة الفقر إلزامية مثل منظومة حقوق الإنسان الأخرى؟
إن ذلك أمر مرغوب فيه أخلاقيا وتقتضيه جميع الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمناهضة الفقر لا تقع على هامش المنظومة وإنما في صلبها لأنها تقع في خط التقاطع بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى. فالتهميش الاقتصادي والاجتماعي مرتبط وثيق الارتباط بالتهميش السياسي والديمقراطي. ويكفي على سبيل المثال أن نرى أثر الفقر في سير الانتخابات في بعض المجتمعات حيث تصبح الأصوات بضاعة تباع وتشترى.
وقد يرى البعض أن الليبرالية واقتصاد السوق وماآلا إليه من عولمة متوحشة مسؤول عن هذا الوضع. لكن يجب الاعتراف أيضا أن المثالية الاشتراكية التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية لئن حققت مكاسب هامة في المجال الاجتماعي فإنها فشلت وتبخرت الأحلام والآمال التي بعثتها لدخولها منطق الأولويات وإهمالها للحقوق المدنية والسياسية.
إن القضية اليوم ليست مناهضة رأس المال بمفهومه التقليدي، أو باسم دكتاتورية البرولتياريا، وهو موقف غير واقعي، بل هو عقيم، وإنما هي قضية مناهضة جميع الدكتاتوريات بما فيها دكتاتورية السوق، التي تسعى العولمة المتوحشة إلى فرضها. لذلك نحتاج اليوم إلى توسيع مفهوم رأس المال بتصنيفه إلى ثلاثة :
رأس المال الاقتصادي،و هو مالي، قابل للنموّ بحسن التصرّف.
رأس المال البشري، وهو فردي، يتحسّن خاصة بالتعليم والمعرفة.
رأس المال الاجتماعي، وهو جماعي، يهم مجتمعا معينا ويتحسّن بالتوزيع الأعدل لثمار النمو وبالتضامن الاجتماعي (العائلي والوطني...).
فإذا اعتبرنا ما بين هذه الأنواع من ترابط وتكامل، وعممنا الوعي به لدى الجميع، أمكن تضافر الجهود لتنميتها جميعا دون صراع لا يؤججه إلا فك الارتباط وافتعال التناقض بينها.
وهكذا تكون تنمية رؤوس الأموال الثلاثة وما يتفرع عنها عاملا أساسيا من عوامل التنمية الشاملة والقضاء على الفقر بإقرار الحق في تساوي الفرص حتى تتوفر للإنسان وسائل تجاوز حالة الفقر والخروج منه نهائيا.
بيد أن هذا التوجه لا يكتمل إلا بالحكم الصالح في مستوى المجتمع الواحد، وبنظام عالمي قائم على علاقات دولية أعدل.
الخلاصــة :
إن هذا التطور في مفهوم الفقر لا ينفي الوسائل التقليدية في محاربة الفقر مثل التضامن والمساعدات الإنسانية اجتماعيا ودوليا، وإنما يتجاوزها إلى تصوّر يُعرّف الفقر تعريفا أدق ويحلل أسبابه ونتائجه تحليلا أعمق وأشمل من النواحي الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإن تنامي الوعي بذلك يمثل مرحلة ضرورية لإدراج مناهضة الفقر ضمن منظومة حقوق الإنسان المعيارية قبل أن يقع تجريمه مثلما جرّمت العبودية أو التعذيب على سبيل المثال.
ومثلما فرضت البشرية بعث محاكم عدل دولية، لا نستغرب أن تنشأ يوما، قد لا يكون بعيدا، محكمة دولية تجرّم الفقر الذي يتسبب فيه الحكم الفاسد بالمقاييس الموضوعية. وإن ما يوجد في العالم اليوم من انتهاك لحقوق الإنسان والشعوب ، لا يجب أن لا يحجب عنا ما تحقق من مكاسب في مجال القانون الدولي الإنساني. فالانتهاكات التي كانت القاعدة، لابدّ أن تصبح شذوذا وعارا على من يقترفها من الجماعات والدول.
منقول.