يشهد العالم اليوم تحوّلا في تصور العمل التعليمي تمثل في المرور من التمركز على " التعليم " إلى التمركز على " التعلــّـم" فاحتل السؤال المركزي " كيف نتعلم ؟ " مكان الصدارة ، وأصبح المعلم يتساءل كيف يساعد المتعلمين على التعلـّم من هنا جاء الاهتمام بالتعلم وبنظرياته العلمية التي تساعدنا على ممارسة الفعل التعلمي التعليمي وتجويده.
الأهداف :
بناء تصور متكامل لمفهوم " التعلــّم " كما يتجلى من النظريات الحديثة في المجال
إدراك التطور الحاصل في مفهوم التعلم من خلال أهم النظريات السيكولوجية ذات العلاقة
تبيـّن أهم الاستنتاجات التي تفيد في توجيه النشاط التعلــّمي بفعالية في الوسط المدرسي وفي مجال التكوين عموما
النظريـــــات الترابـطيــــــــــــــــة
تتنزل النظريات الترابطية في إطار المدرسة السلوكية التي تقيم صلة وثيقة بين ( المثير ـ الاستجابة ) ، ويشكل الترابط ( الربط بين المثير والاستجابة )القاسم المشترك بينها .
1 ـ نظرية التعلم عن طريق المحاولة والخطأ لثورندايك ( 1874 ـ 1949 ) :
أجرى ثورندايك تجارب على حيوانات مختلفة (قردة / كلاب / قطط ...) ← فتبين أن الشكل المميز للتعلم لدى الحيوان ولدى الإنسان هو المحاولة والخطأ الذي سماه بعد ذلك " الربط La connexion "
والمقصود بذلك أن الفرد في مواجهته لمشكل ما ، يختار الاستجابات المناسبة ويستبعد ما حاد منها عن الهدف . وتتحدد المحاولة ( بعدد الأخطاء المرتكبة / أو بالزمن الذي يستغرقه تعلم ما )
ـ مثال تجريبي : حبس ثورندايك قطا جائعا في علبة ووضع له الطعام خارجها ولكنه حجب الآلية المؤدية إلى فتح العلبة وترك رافعة يمكن بواسطتها تشغيل تلك الآلية .
فلاحظ أن القط قام بمحاولات عديدة / ضرب بمخالبه وأنيابه في اتجاهات عديدة حتى توصل صدفة إلى فتح العلبة ووصل إلى الطعام . وفي التجارب الموالية مع نفس القط تناقص زمن المحاولات وعدد الأخطاء .
الاستنتاج ← استنتج ثورندايك بعد تكرار التجربة لمرات عديدة أن القطط تتعلم بإقامة ترابطات ( مثير ـ استجابة ) جديدة يمليها الموقف الذي يواجهها . يقع ذلك عند الحيوان دون تفكير ولافهم ولا وعي وإنما بمجرد تكرار المحاولة والوصول صدفة إلى الحل . هذا الشكل من التعلم هو المسمى بالتعلم عن طريق المحاولة والخطأ .
وقد بين ثورندايك أن الارتياح الناتج عن الوصول إلى الطعام بعد فتح العلبة هو أحد أهم العوامل لخلق تلك الصلة ، وأن تكرار المحاولات هو مصدر الربط بين المثير والاستجابة ، واعتبر أحد المنظرين التربويـيـن الأوائل في أمريكا إذ بيّن خاصة :
قيمة التكرار والإثابة في خلق عادة ما ، ما دام التعلم مرتهنا بالارتياح الناتج عن الربط بين المثير والاستجابة .
تحديد مهارة الفرد في مجال التعلم بقدرته على تغيـيـر وصلاته الدماغية ← ومعنى ذلك أن كل كفاية بشرية تعود في النهاية إلى سلسلة من الروابط القابلة كلها لأن تتعلم .
على الصعيد البيداغوجي يجدر بنا تفكيك الكفايات التي نريد تزويد التلاميذ بها إلى عناصرها الرئيسية وتعليمها لهم بصورة منظمة . ولتحقيق ذلك يوصي ثورندايك بالتدرج من البسيط إلى المركب .
2 ـ الإشـــــــراط ( أو الفعل الشرطي ) : هو الربط بين مثير واستجابة، أو ظهور سلوك جديد(استجابة) تحت تأثير إشارة آتية من البيئة ( مثير ) دون تدخل النشاط الذهني .
ـ هناك نمطان للإشراط : الإشراط الكلاسيكي ( أو المستجيب ) / الإشراط الإجرائي ( أو الوسيلي ) .
ويكمن الفرق بينهما في الدور الذي يلعبه الكائن العضوي في إنتاج الاستجابة ← فالاستجابة في الإشراط الكلاسيكي تكون تحت مراقبة القائم بالاختبار / أما في الإشراط الإجرائي فتكون تحت مراقبة الكائن العضوي .
أ ـ الإشراط الكلاسيكي : يرتبط هذا الإشراط أساسا بالعالم الروسي بافلوف . وقد تأثر بنظرية النشوء والارتقاء لداروين ( فقد كان بافلوف يؤمن بوجود امتداد طبيعي بين الإنسان والحيوان مرفوق بقفزة نوعية تتحقق لدى الأول دون الثاني ، ومن ثم فإن الآليات النفسية المشتغلة لدى الحيوان توجد بشكل أو بآخر لدى الإنسان وتشتغل آليا " المنعكسات " ) .
ـ يتطلب التعلم عن طريق الإشراط الكلاسيكي ثلاثة شروط هي :
1. ارتباط فطري بين مثير وردة فعل ما
2. الربط الزمني بين مثير واستجابة طبيعية
3. إعادة ذلك الربط عددا من المرات
لم يجانب بافلوف الصواب حين ربط بين التعلم عند الإنسان وعند الحيوان ، وبالفعل فإن آلية التعلم التي وصفها واستنبطها عن طريق تجارب أجراها على الحيوانات نصادفها لدى الإنسان في تكوين الانفعالات والاتجاهات : فنحن نلاحظ مثلا أن بعض المثيرات تؤدي إلى ردات أفعال إيجابية ككلمة ( ممتاز) أو ( جيد ) أو كالابتسامة ...في حين تؤدي مثيرات أخرى إلى ردات أفعال سلبية ككلمة ( سيء).
و يتعلق الأمر هنا بنتيجة تعلـّم يربط بين ردات الفعل ومثيرات طبيعية حاملة لوجدانات .
وهكذا نلاحظ أن :
الإشراط الكلاسيكي مرحلة مهمة من مراحل تطور علم النفس المعاصر فيما يتعلق بالمعرفة الخاصة بمجال التعلم ( وفهم السلوك )
يعد بافلوف من رجال العلم الأوائل الذين قدموا تأويلا للتعلم يركز على استثارة البيئة باعتماد طرائق موضوعية كمية مما ينزّل الإشراط الكلاسيكي على رأس إحدى أكبر حركات علم النفس المعاصر وهي السلوكية .
ب ـ الإشراط الإجرائي : ( سكينر 1909 ـ 1990)
تتلخص نظرية سكينر في قوله : " يفعل بنو البشر في العالم فيغيرونه ويتغيرون بدورهم بآثار أفعلهم "
ـ يرى سكينر أن العلاقة الجوهرية ليست بين المثير والاستجابة وإنما هي بين السلوك والنتيجة المعززة له
ـ يميز بين صنفين من الاستجابات : ( المستجيبة ) و( العملية أو الوسيلة = instrumentales)
ـ الاستجابات المستجيبة : تشمل الاستجابات الناتجة عن سلوكات مستجيبة ← أي أن الاستجابة تأتي آليا حالما يوجد المثير ( لحم لعاب ) فالاستجابة هنا تكون تحت تحكم الفاحص
ـ الاستجابات العملية أو الوسيلة : تتعلق باستجابات الكائنات العضوية التي لايمكن ربطها بمثير مميز . أي أن الاستجابة هي تحت حكم المفحوص .
غالبية السلوكات الإنسانية حسب سكينر هي سلوكات إجرائية وليست سلوكات مستجيبة
ـ ترتكز نظرية سكينر على المبدأ التالي : عندما يأتي كائن عضوي سلوكا ما عن طريق الصدفة في البيئة التي يعيش فيها ويتلقى إثابة ، ويتبع ذلك السلوك تعزيز← يصبح هناك احتمال بأن تواتر ذلك السلوك سيزداد في المستقبل . وفي هذه الحالة تستخدم عبارة " إشراط وسيلي " ( من صنف R ) ، بما أن التشديد هنا يكون على وجود استجابة متبوعة بتعزيز على عكس الإشراط ( من صنف S ) الذي يحيل بشكل أوضح إلى أثر المثير . وبذلك يمكن القول إن سكينر يولي أهمية أساسية للتعزيز الآتي من البيئة على حساب المثير .
عندما لاتوجد استجابة لايكون هناك تعزيز ، لأن التعزيز يتحدد باستجابة الفرد بل هو نتيجة لها ، ويسير السلوك حسب نتائجه ، وهذا ما يمثل في الحقيقة العلاقة الأساسية التي يتضح من خلالها الإشراط
" الإجرائي ".
حاول سكينر تطبيق نظريته هذه على التعلم المدرسي من أجل تحسين عملية اكتساب المعارف ، وقد تمثلت تلك المحاولة في :
تعرّف مكتسبات المتعلم السابقة
ثم تجزئة المادة التي على التلميذ تعلمها
جعل التلميذ يتوصل بنفسه إلى الإجابة الصحيحة عن طريق أسئلة بسيطة
كلما أعطى التلميذ إجابة صحيحة إلا ويتلقى تعزيزا إيجابيا
ويرى سكينر أنه بالنسبة للإنسان يفترض أن تنطوي التغذية الراجعة على أثر معزز
ـ وقد استنبط آلات تعليمية يمكن للتلميذ استعمالها بمفرده كتيّـبات أدت فيما بعد إلى التعليم المبرمج باستخدام الحاسوب . وقد عمل جاهدا على استبعاد الخطأ في المشهد البيداغوجي ، لأن الخطأ حسب رأيه مرادف لغياب التعزيز وبالتالي لانعدام التعلم
فالأمر يتعلق إذن بالنسبة إلى المعلم بأن يحدد في كل موقف ما يؤثر في تصرفات التلميذ من مشاركة نشيطة وغيرها ...وهكذا يصبح من الممكن في نظره مراقبة سلوك الإنسان ، ويكفي لتحقيق ذلك تنظيم البيئة بالكيفية التي تحدد اتجاه السلوك الذي نرغب في أن يأتيه . فوُجهت إليه انتقادات منها أنه نزع الطابع الإنساني من التعلم وأراد تعويض الإنسان بالآلة ...
ج ـ نظرية كلارك هل ( 1884 ـ 1952 ) : هي نظرية من النظريات الترابطية إلا أن " هل " كان ينظر إلى السلوك على أنه مـَرن قابل للتكيف وذكي . وقد أدخل مفاهيم جديدة مثل " الباعث " أو " الدافع "
واعتبر أن ثمة تعزيزا كلما نجح الحيوان في خفض التوتر الناتج عن الدافع . ويتمثل ذلك في أن يصبح الحيوان بعد عدة محاولات أكثر قدرة على تنظيم سعيه إلى البقاء عند مواجهة المشكلات التي تأتي من البيئة ، وهكذا يحقق تعلما (من نمط S-R ) يسميه " هل " ( عادة = habit ) . ورأى أن العادة تشكل الهيكل الأساسي للتعلم ويعرفها على أنها
" حالة ثابتة للكائن العضوي ( نتيجة للتعزيز ) تكون بمثابة الشرط الضروري ولكن غير الكافي لإحداث فعل ما " .
وقد أدخل " هل " متغيرات أخرى وعقــّد نظريته بصيغ رياضية عمل بعد ذلك كل من "دولارد" و" ميلر " على تبسيطها وتقريـبها .
د ـ التعلم من وجهة نظر دولارد وميلر Dollard et Miller (في ضوء أبحاث "هل" ) :
حاول كل من (دولارد وميلر) تبسيط نظرية( هل) وتغيـيـرها حتى تصبح قابلة للاستخدام بصورة فعالة في المجال البيداغوجي . ومن أهم ما فعلاه تعيـيـن الظروف التي يمكن أن تتكوّن فيها العادات .وهما يعتبران أن نظرية التعلم هي في أبسط أشكالها
" دراسة الظروف التي تصبح بمقتضاها استجابة ما مرتبطة بمثير "
إذ أن الربط لا يتعزز إلا في ظروف معينة . فعلى من يتعلم أن يكون مدفوعا إلى الاستجابة ، كما يجب أن يحصل على مكافأة بعد إنتاجه لتلك الاستجابة وبذلك يصبح التعلم متمثلا في
أ ـ إرادة شيء ما الدافع
ب ـ إدراك شيء ما المثير
ج ـ عمل شيء ما الاستجابة
د ـ الحصول على شيء ما التعزيز
ويرى هذان الباحثان أن البرهنة وسيلة ننتج بواسطتها استجابات داخلية تحدث استـثارات لأفعال خارجية.
فبدون هذه المثيرات الداخلية لا يمكن أن تحصل تعميمات أو انتقال لأثر التعلم .
هـ ـ نظرية تولمان Tolman ( الخارطة المعرفية ) :اتخذ تولمان موقفا مناقضا تماما لموقف " هل ".
فما يتعلمه الكائن العضوي حسب تولمان ليس مجرد ردة فعل آلية نتيجة لبعض المثيرات ، بل يتعلم على الأصح مدلول المثيرات ، أو لنقل إن ذلك المدلول هو المحدد لردة الفعل تلك وليست المثيرات ذاتها
ـ مثال ← يتعلم الحيوان أن هذا الموقف المثير أو ذاك يعني الطعام . فالمثيرات هي إذن إشارات أو "علامات إرشاد وليست مطلقة لردة الفعل . فما يتعلمه الكائن العضوي حسب تولمان ليس استجابة بل " خارطة معرفية " أو " مخطط معرفي " يوجهه .
← إذن يتعلم الكائن العضوي " المكان " الذي يوجد به الطعام أو " ما يدله على ..." أي يكتسب معلومات
كما تقر نظرية تولمان أن التعزيز ليس ضروريا لكي يحصل التعلم ( خلافا لسكينر)، إلا أنه قد يصبح ضروريا لاستخدام المخطط المعرفي المكتسب ( فكرة التعلم الكامن )
ـ حاول تولمان البرهنة على وجود حاجة للاستكشاف المعرفي(توجد حتى لدى الحيوان) لا علاقة لها بالحاجات العضوية ، وفكرة " التعلم الكامن " هي بمثابة الدليل على ذلك ، ومن ثم تتحقق خارطة معرفية للموقف بحيث يستطيع الكائن العضوي التوجه ضمنها مهما كانت النقطة التي ينطلق منها .
لقد أثبتت التجارب أن ما يــُتعلم هو شيء أكثر تعقيدا من المنعكسات الشرطية لمثيرات معينة ( وهو ما عناه الجشطلطيون " بالحدس" أو " الاستبصار " ) . يبدو إذن أنه كلما أصبحت المواقف التعلمية أكثر تعقيدا يزيد احتمال تأثر المنعكسات بعوامل ضمنية مثل " الخارطات المعرفية " التي جاءت بها نظرية تولمان .
من وجهة نظر بيداغوجية : تثبت نظرية تولمان :
أهمية الإدراك أثناء التعلم
أهمية الفهم وتحوير البنى الإدراكية والذهنية التي تصلح لتنظيم السلوك
أن المشكل الأساسي في تكوين العادات كامن في تمايز الإشارات والأفعال معا